كتب:طارق الكرداوى
لأن ميزانية الصحة متهالكة وضعيفة, ولا تكفي للنهوض بصحة المواطن المصري فقد تحول طلب الحصول علي العلاج إلي رحلة عذاب لا تحتمل, يكون الموت أسرع من الحصول علي العلاج.
العلاج المجاني في المستشفيات العامة حبر علي ورق, والأكثر مستحيلا حينما يفكر المواطن في الحصول علي قرار علاج,
الزملاء قاموا بتحقيقات ميدانية حقيقية في المستشفيات, وفي المجالس الطبية للحصول علي قرار علاج مستحيل ورصد مظاهر الخلل في العلاج بالمستشفيات.تعالوا نقرأ ونتابع الموقف علي الطبيعة لعل حكومة الثورة برئاسة د. عصام شرف, ووزير الصحة د. أشرف حاتم يجدون حلا قبل أن نضحي بالمرضي ونقذف بهم إلي الآخرة.
كتبت عليهم وزارة الصحة أن يكون العذاب آخر مشهد في حياتهم.. يلهثون خلف أوراق.. وأختام.. وتقارير تباعد بينهم وبين الموت لأيام, وربما تقربهم منه لساعات! أملهم الفوز بخطاب العلاج علي نفقة الدولة, أو صك الحياة, كما أطلق عليه البعض سخرية من المسئولين الذين لا يبالون بأن يغيب واحد موتا من هؤلاء المتكدسين علي شبابيك خطابات العلاج.
أدركت أن الحروف والكلمات لن تستطيع أن تجسد المعاناة التي يعيشها الباحثون عن خطابات العلاج والواقعون علي الخط الفاصل بين الموت والحياة, فقررت أن أخوض التجربة بنفسي.. وأن أحاول أن أحصل علي خطاب العلاج علي نفقة الدولة وفقا للمراحل الطبيعية التي يسير بها كل المرضي في جميع محافظات مصر, واليكم التفاصيل:
اليوم الاثنين.. عقارب الساعة تشير الي التاسعة صباحا, المكان مستشفي أم المصريين العيادات الخارجية العلاج علي نفقة الدولة, جمل مكتوبة علي المدخل.. بدأت في تتبعها بخطوات مسرعة, فالشمس تصب وهجها علي رؤوس المرضي الذين يفترشون المدخل الذي يلف بك حتي العيادات الخارجية.
اقتربت من أحد الجالسين وهمست له: أريد أن استخرج خطابا للعلاج علي نفقة الدولة, فقال لي: أنت متأخر إلحق بسرعة قبل غلق الشباك, نظرت للساعة فوجدتها تشير للتاسعة والربع فأخبرني أن اخر ميعاد لتقديم الأوراق هو11 صباحا. توجهت للشباك وحصلت علي تذكرة بجنيه, أخبرت الممرض انني أعاني من السكر فارشدني الي طابور طويل أمام غرفة الطبيب الذي سيجري علي الكشف.
عقارب الساعة تشير الي الحادية عشرة جاء دوري واجري علي الطبيب كشفا شفويا علي طريقة بتشتكي من ايه فأجبت السكر وعلي جزء من ورقة دون تحاليل صايم.. وفاطر وبجوارها مجموعة من الحروف غير الواضحة.. انتهي اليوم الأول عند هذا المشهد.
اليوم الثلاثاء.. بنفس التوقيت ذهبت ومعي تحاليل تفيد انني مصاب بالسكر, حصلت عليها من أحد أصدقائي, فأخذها الممرض ليوقع الطبيب عليها بعد عراك طويل لأنها من خارج المستشفي, وقيل لي انتظر.. الساعات تمر.. ولم تأت التأشيرة بالخطاب.
الساعة العاشرة والثلث.. خرج الممرض وبيده ورقة أخري عليها تحاليل اخري وقال لي أعمل التحاليل هنا في المستشفي. هذه المرة.. سألته هل هذه نفس التحاليل قال لا.. لكنها تحاليل أخري, وبعد ذلك سوف تأخذ خطابا تذهب به الي الشباك في الدور الأول وتنتظر دورك.
قررت أن أذهب الي الشباك للاستفسار أولا قبل التحاليل الأخري التي سأحصل عليها من صديقي أيضا.. المسافة بين الشباك والممرض لا تزيد علي06 مترا استمعت خلالها لقصص من الباحثين عن صك الحياة المسمي بخطاب العلاج أصابتني بالاكتئاب.
أم حنان.. تقول لجارتها التي أتت لتساعدها.. قدمت كل الأوراق اللازمة لاجراء جراحة لقدمي حنان التي تعاني من اعوجاج تام في ساقيها وهذه هي المرة الخامسة التي أتيت بها من البدرشين الي هنا واخبرتني الممرضة ان أعود للسؤال بعد شهرين.
والي جوار أم حنان يسير رجل مسن تكاد يده تلامس الأرض من الألم.. يبحث مع ابنه حسبما قال لي عن خطاب العلاج منذ أكثر من شهر للعلاج من فيروس سي.. طرق كل الأبواب دون رد.. وانهي كلامه.. أتمني الموت. فهو أقرب إلي من خطاب العلاج الذي أخذ من صحتي ومجهودي ووقتي أكثر مما أخذ مني المرض.
وقبل الشباك بقليل تجلس سيدة في منتصف الاربعينيات بطفل في حجرها يبدو لونه شاحبا.. وبجوارها يجلس ممرض وبيده حفنة من الأوراق والمستندات.. وتحاول ان تقنعها بالذهاب الي معهد القلب لعلاج ابنها الذي يعاني من ثقوب في القلب ولم يكمل عامه الثاني بعد. السيدة لم تفهم مايقوله الممرض فهي تفهم شيئا واحدا أن خطاب العلاج الذي ستحصل عليه من المستشفي وتسعي خلفه منذ أكثر من شهر ونصف الشهر هو الذي سيعيد الحياة لابنها, ولا تملك هذه السيدة سوي جملتين ساعدوني.. ابني هيروح مني وانهار من الدموع التي سالت علي شبابيك العلاج في المستشفي.
قررت أن أخرج من المشهد وأذهب واستفسر من الشباك.. وقفت في الطابور.
الموظفة تقول لصديقتها: تخيلي الي الآن أخرجت كما هائلا من الخطابات فلدينا02 خطاب علاج.. نظرت اليها من بين الصفوف.. واخبرتها ان طابورا واحدا به ضعف هذا العدد.. لم تعرني أي اهتمام.
الطابور يسير بسرعة الصاروخ, فهو أسرع طابور في العالم.. لم أدر ما السبب إلا حينما جاء علي الدور.
قالت الممرضة.. الاسم.. وطلبت البطاقة فأخبرتها بأني نسيتها, قالت المرض, فقلت السكر.. فقالت أمامك بعد أن تحضر الملف كاملا مستوفيا كل الأوراق والفحوص04 يوما لتأخذ الرد.. فقلت لها إن الدولة قالت إن العلاج علي نفقة الدولة يستغرق يوما واحدا.. قالت ده كان زمان, اما الآن فتم إلغاء اللجان التي تصدر القرارات, وبعد أن تستوفي الملف تحضره الي هنا.. ونحن نرسله الي الوزارة وبعد مدة من04 الي06 يوما سوف تصرف العلاج إذا تمت الموافقة عليه كله أو نصفه. اللي بعده, وقتها عرفت سر سرعة الطابور ان الاجابة بعد04 يوما.
وعلي المرضي أن يعودوا بعد أربعين يوما.. وعلي الموت أن ينتظر04 يوما, وعلي الألم ان يرحل ويعود بعد أربعين يوما, أيقنت لماذا يطلق الناس هنا علي خطاب العلاج صك الحياة ولماذا أيضا يرغب المرضي في بلادي أن ينهوا حياتهم سريعا لأن المرض والألم لن يستطيعا أن يتعايشا معهما04 يوما.
انتهت رحلة العذاب.. ولم أحصل علي صك الحياة.
انتهت التجربة وبقي معي الاكتئاب ومشاهد قد لا تسقط من الذاكرة أبدا ماحييت.. حتي لو حصل كل فرد منهم علي صك الحياة وخطاب العلاج.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق